كيف يتعامل المترجم مع الاختلافات الثقافية - الجزء الثاني
نواصل عرض بعض المعضلات والمشكلات الثقافية التي تواجه المترجم، ويقع في حيرةٍ من أمره في كيفية التعامل معها، وهدفنا من عرض تلك المعضلات هو مساعدة المترجم في التنبه لطبيعة الاختلاف بين البيئات والثقافات، وكيف تعامل كبار المترجمين مع مثل هذه النصوص.
والمثال الذي بين أيدينا من مسرحية هاملت أيضًا، حينما استخدم هاملت مثلًا شائعًا في الإنجليزية:
Hamlet: Ay, sir, but “while the grass grows” – the proverb is something musty. (1)
وفي واقع الأمر فإن هاملت يذكر الشطر الأول من مثلٍ إنجليزي قديم وهو:
“while the grass grows, the simple horse starves.”
وهنا على المترجم أن يختار بين أمرين: أن يترجم المثل كما هو، وهذا ما يعرف بالتغريب foreignization، أو أن يجد في اللغة العربية ما يقابله، وهو ما يعرف بالتقريب domestication، ولنقرأ الترجمات الثلاث التالية لنعرف كيف تصرف المترجمون:
- محمد عناني: "نعم يا سيدي! لكن – كما يقول المثل – إلى أن يجئ الترياق من العراق"
- عبد القادر القط: "أجل يا سيدي، لكن على أن ينمو العشب، إنه مثل متبذل" (2)
- محمد عوض محمد: "ولكني ما أخالك إلا عالما بالمثل القديم إلى أن ينبت العشب" (3)
وهنا نجد أن الدكتور القط والدكتور عوض فضّلا الاحتفاظ بالمثل الأصلي، والذي قد لا يكون مغزاه واضح للقارئ العربي، بينما نجد أن الدكتور عناني أدرك أن وجود مثل عربي مقابل للمثل الإنجليزي سوف يصل بالمعنى إلى أذهان القراء أو الجمهور في المسرح، وهذا ما يسميه علماء الترجمة بـ proverbial equivalence. (4)
اقرأ أيضا: كيف يتعامل المترجم مع الاختلافات الثقافية - الجزء الأول
أما المثال الأخير في هاملت، هو تلك العبارة التي نطق بها بولونيوس في المشهد الثالث من الفصل الأول:
Polonius: Ay, springs to catch woodcocks
ونلاحظ هنا ذكر كلمة woodcocks وترجمتها الحرفية "الدجاج البري"، وهو الرمز الشائع للغباء والبلاهة في الثقافة الإنجليزية، وهو ما يقابل "الحمار" في ثقافتنا العربية. فالدجاج البري يسهل صيده، ومن ثم عُدّ رمزًا للغباء والبلاهة.
وتظهر هنا مشكلة الخصوصية الثقافية؛ لأن الدجاج البري غير معروف في بيئتنا العربية؛ وبالتالي فهو لا يرمز لأي شيء. ولنقرأ الترجمات التالية:
- محمد عناني: "نعم! أحابيل اصطياد ساذج الطيور"
- عبد القادر القط: "حبائل لاصطياد طيور الغابة الحمقى"
- محمد عوض محمد: "تلك أحابيل لاصطياد الدجاج البري"
من الواضح من الترجمات الثلاث أن المترجمين الثلاثة قد تبنوا استراتيجيات مختلفة في الترجمة. فالدكتور عوض فضّل ترجمة الصورة ترجمةً حرفيةً، وهو بذلك يفضل منهج التغريب بمعنى الالتزام بالنص الأصلي، حتى لو كانت الترجمة تبدو غريبة، أو غير مألوفة للمتلقي.
أما الدكتور القط حاول الجمع بين الحسنيين: الاحتفاظ بجزء من الصور الأصلية، بالإضافة إلى تقريب الصورة للقارئ العربي، فاستخدام كلمة "طيور الغابة" وهي كلمة تجمع تحتها كل الطيور البرية، ولكنه أضاف صفة "الحمقى" لكي يقرب مغزى هذا الرمز للقارئ أو الجمهور في المسرح. (5)
أما الدكتور عناني ففضّل الالتزام بتحييد الصور، بمعنى أن ترجمته "ساذج الطيور" هي ترجمة "محايدة" تصل بالقارئ للمعنى المقصود، وتخلصه من كل المشكلات المتعلقة بالخصوصية الثقافية، وقد برر الدكتور عناني اختياره هذا في الحواشي القيمة والمطولة التي تضمنتها ترجمته قائلًا:
"ولما كانت العبارة الإنجليزية تجري مجرى الأمثال، فإن شكسبير لا يقصد بها صورة شعرية بل يرمي إلى إيصال المعنى وحسب، ولذلك لم أحدد في الترجمة نوع الطير (الدجاج البري) بل أتيت بما يرمز له ذلك الطير من سذاجة" (صفحة 356). (6)
المراجع
(1)- مسرحية "هاملت" الفصل الثالث / المشهد الثاني
(2)- عبد القادر القط – هاملت – القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1991.
(3)- ذكر الدكتور عوض في حواشي ترجمته: "المثل الإنجليزي القديم هو: إلى أن ينبت العشب، يموت الجواد من الجوع. وهذا يشبه المثل القائل: مت يا حمار إلى أن يجئ العليق" (صفحة 403). وهو نفس المثل العامي الذي ذكره الدكتور عناني في واشي ترجمته.
(4) ، (5)- من نوادر الترجمة والمترجمين، د/ أحمد توفيق، الجيزة، هلا للنشر والتوزيع
(6)- مأساة هاملت أمير الدنمرك، محمد عناني، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 2004.
د/ محمد عناني – فن الترجمة، القاهرة، الشركة العالمية للنشر لونجمان – الطبعة الخامسة 1992.